موضوع: إنتهــــى المشــــــــــوار...!!! الإثنين مايو 19, 2008 4:53 pm
انتهى المشوار
بكاءٌ ..... نحيبٌ ..... وعويل .... على تلك الأصوات استيقظ الملاك الصغير ، وداعبت أشعة الشمس المتسللة من النافذة وجه الفتاة التي عادت لتكمل مشوارها في الحياة .
كادت أن تستبشر ( أمل ) بهذه الأشعة الرقيقة ، لولا أصوات النحيب التي كانت قريبة منها ، لماذا كل هذا البكاء ؟ ماذا هناك ؟ هل حصل مكروه ما لأحدهم ؟ ... كل تلك أسئلة تزاحمت في عقل (أمل) . تقوم ( أمل ) من فراشها الذي رقدت فيه في المشفى ، وتقف خارج غرفتها ، وتجد أمامها والدتها ، وأخواتها ، وصديقاتها ، والدموع قد ملأت وجوههم حتى غسلتها .
ازداد تراكم الأسئلة في ذهن ( أمل ) لتزداد إرادتها بحثاً عن مأوى لهذه الأسئلة ، توجهت (أمل) نحو والدتها ، ونظرت إليها وهي تمسح من أنهار الدموع المنسكبة من مقلتيها ، فسألت أمها ببراءة وطفولة : ما بك يا أمي ،؟ لماذا تبكين ؟ ما بكم جميعاً ؟ أجهشت أمها بالبكاء عندما سمعت صوت طفلتها ( أمل ) ، ولم تستطع أن تتفوه بكلمة واحدة، وقفت ( أمل ) والحيرة تكاد تقتلها ، وبعد أن فاض بها الأمر ولم تعد تحتمل رؤيتهم يبكون بهذا الشكل المتواصل ، صرخت قائلةً : أجيبوني ... ما بكم ؟؟
وقفت أخت ( أمل ) الكبرى( إيمان ) ، التي حاولت دموعها أن تخرج عن السيطرة لتعود وتسيل على وجنتيها من جديد ، وأمسكت بكتفي ( أمل ) وقالت لها : يا صغيرتي الغالية ، أتذكرين اليوم الذي نقلناكِ فيه لهذا المستشفى ؟ أجابت ( أمل ) : نعم أذكره ، فقد قال الأطباء وقتها أنهم يشتبهون بإصابتي بسرطان الدم ، ولكنهم لم يتأكدوا من ذلك ، فقالت (إيمان) بعد أن نجحت دموعها الملتهبة من الفرار ، رافضة أن يمنعها أحد من السيلان ، قالت لـ ( أمل ) : ولكنهم تأكدوا من وجوده الآن يا حبيبتي ، فسألتها ( أمل ) : ولكن أليس هناك أملٌ من شفائي ؟ هزت ( إيمان ) رأسها لتخبر أختها الصغيرة أن الأمل في شفائها ضعيف.
تسمرت ( أمل ) في مكانها لحظة ، فقد صدمها الخبر للوهلة الأولى ، وكادت أن تنزل دموعها هي الأخرى ، لترافق دموع من حولها في مسيرها ، ولكنها قتلتها في مولدها ، وصرخت : أتبكونني ؟؟ ...أتبكونني من الآن ؟؟ ... أنا لم أمت بعد ، انظري إلي يا أمي ، إني ما زلت أتنفس ، أنظري إلي يا ( إيمان ) .... أنا هنا ... لم يحن وقت موتي بعد ... كفوا عن العويل واصمتوا ،يا لكم من ضعاف ... يا لكم من ضعاف ...!
أسرعت ( أمل ) عائدةً نحو غرفتها ، وتركت لدموعها هذه المرة العنان لأن تنسكب دون حسيب أو رقيب ، ليزورها بعد ذلك النوم ، الذي جاءها بزيارة طويلة ، ليسامر معها ، وينسج وإياها أحلامها بخيوط أهلكها الألم .
هل حانت نهايتي ؟هل سأترك هذا العالم دون أن أحقق شيئاً من أحلامي ؟؟ كانت تلك تساؤلات أضافتها ( أمل ) لِسجل تساؤلاتها الكبير بعد أن استيقظت في اليوم التالي ، وعادت تسأل نفسها من جديد ، هل حانت نهايتي ؟ .
لا ...لن انتهي بسهولة أبداً ... لن يهزمني ذلك المرض اللعين ... فمهما كان قوياً ، فأنا أقوى منه، لا لن يهزمني ، سأفوز أنا ، نعم سأفوز أنا ، وأنسابت دمعة ساخنة على وجنتها الوردية ، لتجد يداً حنونةً تمتد إليها لتمسحها ، كانت تلك يد والدها الذي قضى الوقت بجانبها أثناء نومها ، لم تلحظ ( أمل ) وجوده من قبل ، ولكنها فرحت كثيراً لرؤية والدها بقربها ،ثم بادرته قائلةً بنبرة ٍ حزينةٍ : أرأيتهم يا أبي ؟ هل رأيت أمي و ( إيمان ) والآخرين ، إنهم يبكونني ، إنهم يبكونني يا أبي ، فقال لها أبوها والحزن يعتصر قلبه : إنهم حزينون لأجلك يا حبيبتي ، فهم يحبونك ، وقد شعروا بالأسى حيالك ، قالت ( أمل ) مستنكرةً : ولكنني مل زلت حية يا أبي ، ولم أمت بعد ، صحيحٌ أن ذلك المرض قد أصبح الآن رفيقي ، ولكنني ما زلت أنا ( أمل ) يا أبي ، لم أتغير ولن أتغير ، وسأحيا بدنياي كما كنت دائماً ، فلن يهزمني مرضي أبداً .
تسللت ابتسامة رضا لترتسم على شفتي الأب ، وقد وجد ابنته الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها الخمسة عشر عاماً ، وجدها تقف في وجه المرض وتقاومه وهي تحمل في قلبها كل الرغبة في أن تحيا وتغلبه .
قَبَلَ الأب فتاته الصغيرة ، وأخذها بين أحضانه ليشعر بأن طفلته أقوى منه ، فقد رفضت أن تستسلم للمرض ، بينما استسلم هو لدموعه سراً حزناً عليها .
مر ذلك اليوم ببطء شديد ، فقد انقضى ما بين فحوص وتحاليل ومراقبة لصحة ( أمل ) ، ثم انتهى ذلك اليوم بأن وجدت نفسها في منزلها من جديد ، وتجد أمامها غرفتها الحبيبة فاتحةً لها ذراعيها لتحتضنها بين جدرانها وزواياها ، فبادلتها ( أمل ) الأحضان بأن ارتمت تلعب بأشيائها وتتأملها ، لتتناسى مرضها العنيد ، الذي يحاول أن ينال من عزيمتها .
وبدأت المعاناة ... فالمرض باشَر أعماله ، وهم بنهش راحة وسعادة ( أمل ) ، لقد بدأ الألم بالانتشار ، وبدأت آثار الأدوية بالظهور ، وأصبح الشعر الحريري الذي لم تكن ( أمل ) تُمضي يوماً واحداًُ دون أن تعتني به أشد الاعتناء ، هذا الشعر الجميل أصبح رفيق سلة المهملات بعد أن طرده المرض ودواؤه من جسد الطفلة ، ورغم ذلك لم تفقد ( أمل ) شيئاً من عزيمتها ، بل زادها ألمها إصراراً على الوقوف بوجه المرض .
كانت الأم ترى ابنتها وهي تُحارب المرض بكل بسالة وإرادة لا ينال منها شيء، وكانت كلما رأتها بهذا الإصرار تشعر بغصة بقلبها تكاد تقتلها ، فمرض طفلتها سينتصر عليها لا محالة في النهاية، هذا ما آمنت به الأم ، فقد آمنت بأن طفلتها قد ضاعت منها للأبد .
ساءت صحة الأم كثيراً من شدة حزنها على ما أصاب ابنتها ، ولما تعانيه من آلام ، علمت (أمل) بمرض أمها ،وعاتبتها على ما فعلته بنفسها ، وقالت لها : يا أمي الغالية ، لا تخافي علي ، فأنا ما زلت بكامل عافيتي ، وإن أصبحت أشبه بالرجل الأصلع دون شعري ، ولكن اطمئني فابنتك قوية ، لا يهزمها مرض سخيف كهذا ، ويجب عليك أن تقفي بجانبي لتسانديني لإكمال مشواري ، ودنت ( أمل ) من كف أمها وطبعت عليه قبلةً كانت سبباً في نقش الابتسامة الأخيرة على وجه والدتها ، فالأسى الذي سكن قلبها كان فعله أقوى من أشد الأمراض فتكاً ، ففعل هذا الأسى فعله وسلب جسد الأم روحه ، وسلب معه قلباً حانياً ملأ حياة ( أمل ) القصيرة حباً وحناناً لم يستطع أي قلب آخر أن يمنحها إياه .
يا للعبة الأقدار ... الأم تبكي حرقةً ظناً منها أن طفلتها ستقضي نحبها قريباً ، ليأتي القدر ويسلب الأم روحها قبل أن ترى فتاتها جسداً بلا روح .
بكت ( أمل ) بحرقة شديدة ، فقد فقدت أمها الغالية ، فقدتها للأبد ، فقدتها ولن تعود من جديد ... يا لقسوة الأيام ، كيف تستطيع أن تستحمل هذه الطفلة مرضاً يلتهم جسدها ؟ كيف لها أن ترسم مستقبلها دون أن تقوم أمها بإضافة تلك الألوان البراقة للوحتها ؟؟ يبدو أن ( أمل ) سترسم ذلك المستقبل باللون الأسود فقط ، بعد أن سرق منها الموت الألوان ، وتركها وحيدةً مع اللون الأسود ، وها هو ألم الموت الآن أخذ يساند مرضها في جريمته و ( أمل ) تقف بوجههما بعينين دامعتين.
حضنت ( أمل ) جسد أمها الذي ما زال دافئاً للمرة الأخيرة ، قبل أن يُوارى تحت الثرى ، والدموع.... الرفيق الدائم لمثل هذه المواقف ، كانت هي الضيف الأوفر حظاً في ذلك اليوم .
قاومت ( أمل ) يأسها ، وأقسمت على أن لا تلحق بأمها إلى حيث تسكن روحها ، إلا بعد أن تضع قدمها على سلم الأحلام ، فحلمها الآن هو أن تحصل على تحصيل دراسي عالي ، فاجتهدت وثابرت وتعبت وبدأت تحصد ما زرعت ، وبدأ حلمها البسيط بالاقتراب منها ، فقد حان يوم الحصول على النتائج المدرسية ، حان اليوم الذي قدمت من أجله كل ما لديها من طاقة في سبيل أن تحقق بعضاً مما ترغب وتتمنى .
ها هو اليوم المرتقب ، يوم تسلم النتائج ، في ذلك اليوم اشتد ألم المرض على ( أمل ) ، وأبَت إلا أن تذهب إلى المدرسة لتستلم نتيجتها بنفسها ، وتفخر بها ، أحست ( أمل ) بفرحة تغمرها مع دنوها من المدرسة شيئاً فشيئاً ، وصلت السيارة إلى المدرسة وهمت ( أمل ) بالنزول منها ، ولكن مرضها بدأ يضرب ضربته الساحقة ، كان المرض قد نهش من جسدها ما يكفي لأن يرديها قتيلة ، ولكن ( أمل ) قاومته ، الألم شديد ، وما زال يزداد شدة ، وهذه الصغيرة تزداد مقاومةً له، وتتابع نزولها من السيارة وتدخل المدرسة ، وتصل إلى منصة التسليم ، وعندما وضعت قدمها على الدرجة الأولى من سلم المنصة ، تهاوت ( أمل ) دون سابق إنذار ، وسقطت عن السلم ، وسكنت على الأرض جثة هامدة دون حراك ، والبسمة مرسومة على شفتيها الصغيرتين ، كانت نفس تلك البسمة التي ارتسمت على شفتي والدها ووالدتها من قبل ، إنها بسمة الرضا ، وانطلقت روحها مسرعةً في السماء ، لتلحق بروح والدتها ، وتستقر بجانبها ، وتهنأ بقربها .
وينتهي مشوار العذاب ، مشوار الألم ، مشوار المُعاناة ... ولكن من انتصر في نهاية هذه الحرب الباردة ؟ هل انتصر المرض الفتاك ؟ أم انتصرت الروح الصغيرة البريئة صاحبة الإرادة القوية ؟؟ لمن كان النصر ؟؟؟ ولكن مهما كانت هوية المنتصر ، فإن مشوار عذاب الأمل قد انتهى ...